روائع مختارة | روضة الدعاة | الدعاة.. أئمة وأعلام | مرج الصفر.. وعزل خـالد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > الدعاة.. أئمة وأعلام > مرج الصفر.. وعزل خـالد


  مرج الصفر.. وعزل خـالد
     عدد مرات المشاهدة: 2846        عدد مرات الإرسال: 0

مقدمة.. بانتصار خالد بن الوليد في موقعة أجنادين سيطر المسلمون على جنوب فلسطين، وامتلكوا بذلك جزءًا من أرض الشام، وهربت الحامية الرومية التي كانت موجودة في " جلق"، وكانت حامية "بصرى" قد هزمت من قبل، فأصبحت أهم قوة يجب أن يتوجه إليها خالد في الشام هي (حامية دمشق)، وقرر خالد أن يعود من أجنادين لحصار دمشق مرة أخرى، وكانت دمشق ذات أسوار حصينة، وبها حامية قوية، لم تحارب المسلمين من قبل بل كانت تكتفي بالتحصن وإلقاء السهام عليهم، فالتف خالد بن الوليد عليهم من جنوب البحر الميت ثم صعد شمالًا إلى البلقاء، ثم إلى بُصرى، ثم إلى دمشق، ولم يتجاوز أرض فلسطين من منتصفها، خوفًا من وجود حاميات رومية مختبئة في هذه الأرض، والمسلمون ليس لديهم دراية كافية بهذه الأرض، ووصل بجيشه إلى دمشق، وحاصرها، وخلف في البلقاء (شرحبيل بن حسنة) لحماية مؤخرة المسلمين، و ترك معه 2500 جندي، وصعد مع أبي عبيدة ويزيد وعمرو بجيوشهم إلى دمشق لحصارها من جميع الجهات..

بعد أن حاصر المسلمون دمشق، قرر هرقل إرسال حامية من (حمص) حتى تلتف حول الجيش الإسلامي الموجود في الجنوب، وحامية أخرى من الشمال، حتى تضع الجيش الإسلامي بين فكي كماشة!

وقفـة عـنـد عـزل خـالـد:

عزل خالد رضي الله عنه كان موقفًا مهمًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، يجب على كل مسلم أن يقف لتأمله، ذلك أن القائد العظيم الخليفة (عمر بن الخطاب) رأى أن المسلمين سيفتنون بقيادة (خالد) لجيش المسلمين، لانتصاراته المتتالية، ورأى أن في سيف خالد بن الوليد (رهقًا) , وأنه يقاتل الناس قبل أن يسلموا...

وأنه يرى الهدف من الجهاد دخول الناس في الإسلام والدعوة للإسلام، وليس فتح الأراضي الجديدة فحسب، وفي الواقع كان خالد بن الوليد كان يقوم برسالته خير قيام، وإنه كان حريصًا على إيصال الدعوة الإسلامية للناس، وكان أبو بكر الصديق مدركًا لذلك، فرحًا بانتصاراته، يدعو له ويقول: (أَعَجَزَتِ النساءُ أن تلد مثل خالد بن الوليد؟!!) فكان هذا رأي أبي بكر، وأبي عبيدة فيه، ولكن كان هذا اجتهاد " عمر بن الخطاب"، وعلى علمه بمهارة خالد، إلا أنه رأى أن من الأفضل عزل " خالد " وتولية أحد القادة الهَيِّنين اللَّيِّنين كأبي عبيدة... وهي تضحية منه في سبيل الله، حتى يعم الإسلام الديار المفتوحة، فالهمُّ الأكبر لديه ليس كسب الأراضي الجديدة وفتحها، وإنما نشر دعوة الإسلام... كما تجلى في هذا الموقف عظمة (أبو عبيدة بن الجراح) عندما تلقى أمر عمر بن الخطاب بالإمارة، بالحزن والهم، لأنه كان لا يريدها لنفسه.

 ومن جهة أخرى تجلت عظمة تربية " خالد بن الوليد" في طاعته لأمر خليفة المسلمين، فبمجرد أن علم بأمر عزله، قال: (الحمد لله الذي ولَّى عمر بن الخطاب، وقد كان أبو بكر أحب لديَّ من عمر بن الخطاب، فالحمد لله الذي ولَّى عمر، ثم ألزمني حبه) فمنذ هذه اللحظة أصبح يحب عمر بن الخطاب، وليس فقط يطيعه.

ولم يعترض أحد على ما قرره الخليفة من عزل خالد، كما لم نسمع عن اعتراض على توليته على الجيوش، وقد كان أبو عبيدة أميرًا عليها، وهذا يعكس لنا إلى حد بعيد، طبيعة ذلك الجيش الإسلامي المنتصر، فلا فرق لدى المسلمين، فهم تحت أي إمرة يعملون، وفي أي صف يشاركون، وإنما هدفهم رضا الله عز وجل، والجهاد في سبيله. وهذا يوضح لنا أنه لا يمكن أن يعود الإسلام من جديد إلا بجماعة من المسلمين متحابين مترابطين..

الوضع في الجبهة الشرقية:

في الميدان الشرقي في ذلك الوقت، ينتصر أبو عبيد بن مسعود الثقفي في ثلاث مواقع متتالية على الفرس، ثم يهزم هزيمة كبيرة جدًا، في مواجهة جيش (جابان) الفارسي القوي في معركة الجسر ويُسْتَشهد، وكان الثمن في منتهى القسوة على المسلمين إذ يسقط منهم 4 آلاف شهيد (من إجمالي 10 آلاف مجاهد)، وفرَّ منهم 4 آلاف!!.. و تولى (المثنى بن حارثة) قيادة الجيش، ثم انتصر المسلمون بفضل الله عز وجل انتصارًا عظيمًا في موقعة (البويب) وكان ذلك بعد نحو أسبوعين من هزيمتهم في الجسر.

فكان عمر رضي الله عنه كلما جاءه مدد من المسلمين أرسله إلى العراق، وبذلك فإن الوضع في الشام قد غدا مطمئنًا، ومما لا شك فيه أن غياب خالد بن الوليد عن العراق بـ9 آلاف من جنود المسلمين، كان له أثر بالغ في إضعاف جيش المسلمين هناك، وكذلك كان لقيادة (أبو عبيد الثقفي) أثر، أما الوضع في الشام فكان مطمئنًا، فكان يرسل لأرض العراق كل المدد...

الوضع الجديد في الشام:

في أرض الشام، تجمعت بعض الجيوش الرومية القادمة من حمص، و أنطاكية في (بعلبك) وكان لديها الاستعداد أن تقدم إلى دمشق، فلما وصلتها أنباء هزيمة الروم في (مرج الصفر) تراجعوا وآثروا البقاء في حصون " بعلبك"، في ذلك الوقت أرسل أبو عبيدة بن الجراح شرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما، الذي كان في البلقاء، يرسل له رسالة يأمره فيها بالانتشار في أرض الأردن وفلسطين، وبثِّ السرايا، والإغارة على القرى والمناطق المجاورة له، وجمع الغنائم، ودعوة الناس إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال... ولم يكن هناك حامية رومية قوية، فلم يكن من الناس إلا أن يقبلوا بالجزية، أو يدخلوا في الإسلام، أو يهربوا من الأرض، وتجمعت القوات الرومية الموجودة في كل مكان في (بيسـان) شمال فلسطين.. وعرف المسلمون أن الروم لديهم حاميتان: الأولى في بعلبك، والثانية في بيسان. وأن شرحبيل بمفرده في بيسان (بالقرب منهم) و ليس معه سوى ألفين وخمسمائة من المجاهدين...

وكان جيش المسلمين المتبقي حول دمشق 29 ألفا، وتصل هذه الأخبار إلى أبي عبيدة، فيجمع قادة جيوش الشام كلها (خالد، و يزيد، و عمرو)، معه في خيمته، ليأخذ رأيهم في تجمعات الروم الجديدة. فماذا كان رأيهم؟..

رسالة عمر لأبي عبيدة, وعزل خالد:

بعد هذه الأحداث، في ذلك الوقت، أرسل عمر رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح في أرض الشام مع مولاه (يرفأ)، جاء فيها:

 (عن تاريخ دمشق لابن عساكر) ((أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون ورحمه الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق والآمر بالقسط والآخذ بالعرف اللين الستير الوادع السهل القريب الحكيم ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته والعمل بطاعته ما أحيانا والحلول في جنته إذا توفانا فإنه على كل شئ قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق وقد وليتك جماعة المسلمين فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تغري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه (أي أن عمر بدأ يوجه القائد بنفسه، من مكانه كخليفة للمسلمين، فيأمره بإخراج السرايا إلى حمص، وما حولها، وألا تكن تلك السرايا كثيرة، فيضعف ذلك من شأن الجيش المحاصر دمشق) وليكن فيمن يُحتبَس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه. (فاحتياج المسلمين لخالد بن الوليد أمر لا ينكره أحد، لذا نصحه أن يستبقيه مع الجيش الذي يحاصر دمشق.) وعلى هذا النحو جاء خطاب عمر لأبي عبيدة بلهجة رقيقة، ليس فيها أمرٌ مباشر، فقرأ أبو عبيدة الخطاب، وأخذه المفاجأة لوفاة الصديق رضي الله عنه، ثم نادى معاذ بن جبل فأخبره، فاسترجع وقال: وما فعل المسلمون؟، فقال له (يرفأ): استخلف أبو بكر رحمة الله عليه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال معاذ: الحمد لله، وُفِّقُوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: لقد خشيت أن أسأل "يرفأ" خشية أن يقول أن الخليفة غير عمر. (وهكذا كان الصحابة متفقين على خلافة عمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما)، ثم قال يرفأ لأبي عبيدة: إن عمر بن الخطاب يسألك عن جيش المسلمين، ويسألك عن خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، و عن شرحبيل بن حسنة و عن معاذ بن جبل وهم قادة الجيوش، فقال أبو عبيدة: (أما خالد فخير أمير، وأشدهم على عدوهم من الكفار، فجزاه الله عنهم خيرًا).

وفي هذا شهادة من أمين الأمة على أن خالد بن الوليد رضي الله عنه ذو كفاءة عالية، وأن اختياره للقيادة كان اختيارًا صائبًا، ثم يذكر أن بقية القادة كانوا أشداء على المشركين رحماء بينهم.. ثم يقوم (يرفأ) لكي يعود إلى عمر، فيأمره أبو عبيدة بالانتظار حتى يكتب معه، ثم يجتمع هو ومعاذ بن جبل، فيكتبان رسالة إلى عمر رضي الله عنه جاء فيها: في تاريخ دمشق لابن عساكر (من أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، إنك يا عمر أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والقوي والضعيف، والشريف والوضيع، ولكل عليك حقٌ وحصة من العدل، فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نُذَكِّرُك يومًا تبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المخبآت، وتعنو فيه الوجوه، لملك قاهر قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية، أعداء السريرة (يحذرونه من بطانة السوء) وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا (أي أن يهتم به كما اهتموا بكتابته) والسلام عليك. تاريخ دمشق - (ج 65 ص 69)

أبو عبيدة يتكتم الأمر:

فمضى الرسول بالكتاب إليه , وقال أبو عبيدة لمعاذ بن جبل والله ما أمرنا عمر أن نظهر هلاك أبي بكر للناس , وما نعاه إليهم فما ترى أن نذكر من ذلك شيئا دون أن يكون هو الذي يذكره (يريد أن يكتم الخبر عن المسلمين، حتى لا يوهن من عزائمهم، وكتم ذلك الخبر يدل على مدى ما كان عليه أبو عبيدة من زهد في الدنيا , فقد ولاه عمر قيادة الجيوش بدلا من خالد) , قال له معاذ: فإنك نِعْمَ ما رأيت، فسكتا فلم يذكرا للناس من ذلك شيئا.

وبقي الأمر على ما هو عليه، على الرغم من أنه فيه مخالفة لأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تغييره لأمير جيش المسلمين، ويبدو من الرسالة أيضًا أنه كان يريد أن يبلغ المسلمين بوفاة أبي بكر، لأن ذلك التغيير الذي وضعه عمر يقتضي أنه هو الذي أصبح خليفة المسلمين،.. ولكن أبا عبيدة -لخوفه رضي الله عنه على معنويات المسلمين -لم يرد أن يعلن هذا الأمر لهم، فاستبقى الأمر على ما هو عليه تحت إمرة "خير أمير " كما يرى، وهو (خالد بن الوليد) رضي الله عنه، فيرجع (يرفأ) الذي علم أن أبا عبيدة لم يخبر الناس بوفاة أبي بكر، ولم يغير إِمْرَةَ الجيوش، فأخبر " عمر بن الخطاب " بذلك، فأرسل عمر بن الخطاب رسالتين، الأولى: يرد فيها على رسالة معاذ بن جبل، وأبي عبيدة في الرسالة الأو

تحقيق مواعيد المعارك:

و كان للأستاذ أحمد عادل كمال بحث من أروع ما كُتِبَ في هذا المجال، وقد رجح فيه بعد الكثير من التقصي، والتحقيق، أن أول موقعة كانت " أجنادين " ـ كما ذكرنا ـ وكان فتح دمشق بعدها (14 هـ)، وكانت اليرموك عام 15 هـ.. وعلى ذلك يكون توقيت هذه الرسالة بعد موقعة أجنادين، لأن أبا بكر تُوُفي بعدها بنحو 20 يومًا، ومعروف عند المؤرخين جميعًا أن أول قرارات عمر كان عزل خالد بن الوليد رضي الله عنهما.. أي أن ذلك بعد أجنادين مباشرة، في حصار دمشق هذا (13هـ)... فيقول في رسالة العزل: من عبد الله عمر، إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد، فقد وليتك أمور المسلمين، فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق، وإني أوصيك بتقوى الله الذي أخرجك من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، وقد استعملتك على جند خالد، فاقبض جنده، واعزله عن إمارته.

وكانت هذه الرسالة في 26 من رجب عام 13 هـ، وأُسْقِطَ في يد أبي عبيدة، فلم يكن راضيًا عن نزع " خالد " عن إمرة الجيش، لما يرى له من بأس على الكفار ورحمة على المسلمين ولمقدرته على القيادة، و خبرته بأمور القتال. فيطلب " معاذ بن جبل" رضي الله عنه، ويستشير بعض المسلمين، ويتداول المسلمون الأمر فيما بينهم، حتى يصل الأمر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، (من تاريخ دمشق: فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك يا أبا عبيدة؛ أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية؛ فلم تُعْلِمْني وأنت تصلِّي خلفي والسلطان سلطانك!!)، (لأن الصلاة تكون للأمير، أو الوالي على المسلمين، حتى وإن كان مَنْ خلفه أقرأ منه، وكان هذا فقط ما أقلق خالدًا رضي الله عنه، فلم يسأله: لم عزله عمر؟، ولم يعترض على رأي خليفة المسلمين!) فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك، والله ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله , ثم قد كنت أُعْلِمُكَ بعد ذلك، وما سلطان الدنيا أريد وما للدنيا أعمل، وإنَّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقُوَّام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة إلا من عصم الله عز وجل وقليل ما هم.

وهكذا، لم يعلق خالد على مسألة عزله، وتولَّى أبو عبيدة بن الجراح إمرة جيوش المسلمين في الشام.

وفاة أبي بكر واستخلاف عمر:

بعد ذلك الانتصار الثمين الذي حققه المسلمون في مرج الصفر، عاد المسلمون مرة أخرى إلى حصار دمشق، وأصرَّ الجيش الرومي على عدم الخروج، وكان الأولى به أن يخرج في الفترة التي ذهب المسلمون فيها للقتال في (مرج الصفر)، ولكن الله عز وجل ألقى في قلوبهم الرعب، فبقوا في حصونهم، حتى عادوا إليهم مرة أخرى.... وفي هذه الأثناء يحدث للمسلمين حدثٌ جلل، ومهم للغاية في المدينة المنورة... وهو مرض خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكوثه في بيته 15 يومًا، يؤم المسلمين أثناءها (عمر بن الخطاب) الذي أمره بأن يخلفه....، يمرض الصديق رضي الله عنه، الذي أمضى حياته كلها جهادًا في سبيل الله.. ولم يمكث في الخلافة إلا عامين، استطاع فيهما أن يقمع كيد المرتدين، وأن يجمع القرآن الكريم , ويبدأ بفتوحات المسلمين حول الجزيرة العربية، في فارس فتفتح العرقا، وفي بلاد الروم، فيفتح جزءًا من الشام، وفعل ما لم يفعله السابقون ولا اللاحقون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حتى يأتي يوم 22 من جمادى الآخرة عام 13 هـ، إذ يرسل لعمر بن الخطاب،

جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثير:

أن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليًا ليكتب عهد عمر، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرًا. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي. فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: اراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله.

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يألكم نصحًا. فسكن الناس، فلما قُرِىءَ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله ثم قال: يا عمر إن لله حقًا بالليل لا يقبله في النهار، وحقًا في النهار لا يقبله بالليل (أي أن العبادات يجب أن تؤدى على أوقاتها، ومثل ذلك نصرة دين الله في الوقت الذي يحتاج النصرة..)، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم؟ وحق لميزان لا يوضع فيه غدًا إلا حق أن يكون ثقيلًا. ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم؟ وحق لميزان أن يوضع فيه غدًا إلا باطل أن يكون خفيفًا. ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا (أي أن الله عز وجل عندما يقول (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم) يتبعها بالآية الكريمة (وأن عذابي هو العذاب الأليم)، وهكذا حتى يصبح المؤمن بين الخوف والرجاء، بين الرغبة لثواب الله عز وجل ورضاه وجنته، والرهبة من عقاب الله سبحانه، وسخطه، والنار) (فلا يلقي بنفسه إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله غير الحق) لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه. أو لم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوأِ أعمالهم؟ فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من أعمالهم؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت فلا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه، فلا يكونن غائبٌ أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه) ولست بمعجزه.

وقد وقعت هذه النصيحة ـ ولا شك ـ موقعًا حسنًا من نفس الفاروق عمر رضي الله عنه، إذ نشر العدل في بلاد المسلمين، لمدة 10 سنوات كاملة، هي مدة خلافته رضي الله عنه.

المثنى في المدينة:

كان هذا في صباح يوم 22 جماد الثاني، ويأتي المثنى بن حارثة رضي الله عنه من أرض العراق في هذه الفترة التي مرض فيها أبو بكر، وذلك بعد أن انفصل خالد بجيشه عنه ذاهبًا إلى الشام، وبمجرد انفصال خالد بجيشه، التحم " المثنى بن حارثة " و الفرس في موقعة (بابل) وانتصر فيها انتصارًا ساحقًا، ولكن بعد ذلك حدثت بعض التغيرات في الحكم الفارسي أسفرت عن تجميع الجيوش الفارسية في كل مكان لحرب المسلمين، فلم يكن من المثنى بن حارثة إلا أن ترك الجيش الإسلامي في العراق، وجاء للصديق يستأذنه في المدد (وكان يريده من المرتدين الذين عادوا إلى الإسلام، ويريد أن يقنع أبا بكر بضرورة الاستعانة بهم!)، وعاد المثنى في فترة المرض تلك، حتى كان يوم 22 من جمادى الآخرة، إذ أفاق أبو بكر، وبدا للناس أنه عاد إلى صحته، (كما حدث لرسول الله قبيل وفاته)، فجلس إليه المثنى بن حارثة، وحدثه عن الموقف في أرض العراق، وقال له إن المسلمين بحاجة إلى المدد، ولم يحدثه في أمر المرتدين، فأرسل أبو بكر مباشرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقول له: (يا عمر إني لأرجو أن أموت من هذا اليوم، فإن أنا مت في الصباح، فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة إلى العراق، وإن أنا مت في المساء، فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، للجهاد في العراق)، وهنا نرى أن الصديق رضي الله عنه يلفت انتباه خليفته إلى أهم الأمور التي يجب أن ينتبه إليها بعد وفاته، وهو الجهاد في سبيل الله، ومساعدة المجاهدين في أرض فارس مباشرة، دون تأخير، ويمتد العمر بالصديق حتى المساء، وما بين المغرب والعشاء في ذلك اليوم، يصل رسول (خالد بن الوليد) من الشام ببشرى الفتح (معركة أجنادين). فيُسَرُّ سرورًا عظيمًا، ثم يلتفت إلى من حوله من أهله و يقول: (انظروا إلى ثوبي هذين، فاغسلوهما، وكفنوني فيهما، فإن الحيَّ أحوج إلى الجديد من الميت) أي أنه لا يريد كفنًا جديدًا.. وكانت آخر كلماته قبل وفاته رضي الله عنه: (رب توفَّني مسلمًا، وألحقني بالصالحين) قالها، ولفظ أنفاسه الخيرة... رحمه الله ورضي عنه..

وكان وقع المصيبة عظيمًا على المسلمين، فوفاة أبي بكر حدثٌ جلل، ليس فقط لأنه أول خليفة للمسلمين، ولكن لما له من مكانة في قلوب المسلمين، والصحابة رضوان الله عليهم، وبمجرد تولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة، دُفِن أبو بكر الصديق بعد العشاء مباشرة، وبدأ في تنفيذ وصيته بأن يندب الناس في منتصف الليل للجهاد في أرض العراق، وظل يندب الناس 3 أيام، دون أن يخرج أحد!!!، و كان ذلك لأسباب عديدة: أحدها: تأثر المسلمين بوفاة أبي بكر، وخوفهم من بطش عمر حتى إن طلحة بن عبيد الله دخل على أبي بكر بعد أن علم بأنه ولَّى عمر من بعده، فقال له: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك؟! (فانتفض أبو بكر و أمسك بكتفه و هزه و) قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني؟! (أي هل تظن أنك أكثر ورعًا مني، فتخوفني بالله؟!!) إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك. (أي أنه يرى أن خير أهل الأرض آنذاك، وأفضلهم، وأجدرهم بالخلافة هو عمر رضي الله عنه)..... عن الكامل في التاريخ!!

هذا بالإضافة إلى رهبتهم من القائد الفارسي (رستم).. وقوة جيش الفرس، بالإضافة إلى أن كثيرًا من المجاهدين (نحو 50 ألف مجاهد) كانوا قد خرجوا في الشام والعراق وعلى أطراف الجزيرة العربية.. وغير ذلك.

حتى خرج في اليوم الرابع (أبو عبيد بن مسعود الثقفي)، ثم قام ثلاثة بعده، وبعدهم قام ألف من المجاهدين، وأصرَّ عمر رضي الله عنه على أن يولي (أبوعبيد بن مسعود) على كل الجيش حتى الموجود في العراق.. على الرغم من أنه ليس له علم بالحرب!!

موقعة مرج الصفر:

 توجهت الجيوش الرومية (في 30 ألف مقاتل) من حمص إلى مرج الصفر حتى تصعد إلى دمشق، ولكن خالدًا علم من مخابراته بتوجههم ذاك، فقرر ألا ينتظر حتى تأتيه الجيوش، وأخذ جيشه وتوجه إلى الجيوش الرومية قبل أن تصل إلى دمشق، والتقى بهم في (مرج الصفر)، و لم تكن الجيوش الرومية مستعدة لذلك اللقاء، وبذلك التقى المسلمون والروم في مرج الصفر للمرة الثانية، ودار بينهما قتال عنيف للغاية، وجعل خالد ترتيب الجيش كما كان عليه في "أجنادين"، مع اختلاف يسير وهو وضع "هاشم بن عتبة بن أبي وقاص " على الميسرة، و بقي على الميمنة " معاذ بن جبل " رضي الله عنه، وعلى القلب أبو عبيدة و سعيد بن زيد، وبقي هو في المقدمة، و يتنقل في كل المواقع، وكانت موقعة شديدة.. وكان جيش الروم آنذاك أعدادا ضخمة قادمة من أنطاكية ومن حمص لم تهزم قبل ذلك مع جيش الروم في أجنادين، صبر الفريقان، و طالت بهم المدة حتى نهاية اليوم، وكان أشد المسلمين ضراوة في القتال " خالد بن سعيد " رضي الله عنه، الذي كان قد هُزِم من قبل في (مرج الصفر) والتي هُزم فيها، وكأنه يكفر عن خطئه، فجاهد جهادًا عظيمًا حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه.. في آخر اليوم.. حيث انتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، ولكن بثمن غالٍ، سقط خمسمائة شهيد من المسلمين، في مقابل خمسمائة قتيل وأسير من الروم، وجرح 4 آلاف مسلم. وهرب الجيش الرومي جرَّاء ذلك الانتصار.. وكان ذلك بعد موقعة أجنادين بعشرين يوم.. في السابع عشر من جمادى الآخرة عام 13 هـ...

مما يذكر في هذه الموقعة: أن " أم حكيم بنت الحارث بن هشام " زوجة " خالد بن سعيد" رضي الله عنهما، كانت زوجته لليلة واحدة، أي أنه تزوجها في ليلة (مرج الصفر)، وكانت أرملة أحد شهداء المسلمين في فتح الشام، فلما علمت (أم حكيم) بمقتل زوجها ما كان منها إلا أن أخذت عمود الفسطاط وتلثمت، وخرجت تقاتل الروم، واختلف الرواة: أقتلت منهم أربعة، أم سبعة؟!!.. وعادت دون أن تصاب بجرح، فلا نامتْ أعينُ الجبناء!. 

المصدر: موقع قصة الإسلام